الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وآله الطاهرين وبعد: قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:183. لا يطرح الصيام على من يعرف أن الإسلام دين واقعي حياتي، إلا ويتساءل: ما هي حقيقة الصيام، التي جعلته ركناً من أركان الإٍسلام، ومن أركان الأديان ـ كما يقول القرآن ـ؟. (هل الصيام هو مجرد الامتناع عن الممارسات الحيوانية الترابية، من: الأكل، والشرب، والجنس... أم الصيام شيء آخر؟؟).
لا يمكن أن يكون الصيام مجرد الكف عن الممارسات الجسدية، لأمرين:ـ 1ـ أن طبيعة الصيام ـ في ظاهر التشريع ـ طبيعة سلبية، لا يمكن أن تكون هدفاً من أهداف شرائع السماء الإيجابية، لأن كبح نداءات الجسد ـ ولو لفترة الصيام عملية هدم، وليست عملية بناءٍ، فهو عملية سلبية، لا ينسجم مع طبيعة الأديان، وخاصة مع طبيعة الإٍسلام، الذي هو حضارة الروح والجسد معاً، والذي اهتم برعاية الجسد كما اهتم برعاية الروح، فقال:(وَابْتَغِ فِيَما آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) القصص: آية 77. وقال ـ على لسان الإمام علي بن الحسين عليه السلام: «ليس منا من ترك آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته» وسائل الشيعة ج12 ص49 باب عدم جواز ترك الدنيا، وقال ـ على لسان معصوم آخر ـ: «... وإن لجسدك عليك حقاً » بحار الأنوار ج70 ص128 ج14. 2ـ إن طبيعة الصيام ـ في ظاهر التشريع ـ محاولة لإلغاء رغبات الجسد ـ ولو فترة الصيام ـ. وإلغاء رغبات الجسد لا يمكن ما دام الجسد، إلا إذا كان حلقه في سلسلة أعمال تصفوية تمارس لإلغاء الجسد أو تذويبة. والإسلام عمل لصيانة الجسد وترتيبه، واعتبر أي عمل يؤدي إلى إهلاك الجسد ـ أو طرف من أطرافه المحرمات، وألغى أي حكم يؤدي التزام بل إلى إهلاك الجسد، أو طرف من أطرافه. والإسلام احترم رغبات الجسد، واعتبرها أمانة الله لدى الإنسان، وشرع الأحكام لتقنينها. فكيف يكون إهمال رغبات الجسد، عبادة تقرب إلى الله، والاستجابة لها، معصية تبعد عن الله؟؟!! فلا بد أن نفترض الصيام، أحد شيئين لا ثالث لهما:ـ 1ـ شيء مركب له جانبان: جانب سلبي وجانب إيجابي. وجانبه السلبي، تجاهل نداءات الجسد ـ فترة الصيام ـ فيكون التساؤل: (إذن: فما هو جانبه الإيجابي؟). 2ـ شيء بسيط، يمهد له تجاهل الجسد ـ خلال فترة الصيام ـ كالبناء الذي يمهد له الهدم ـ والصيام، يؤدي دور الهدم، فيكون التساؤل: ( إذن: فما هو الصوم الحقيقي الذي يمهد له الصيام الظاهري؟). ففي الفرضية الأولى، يكون التساؤل بحثا عن الجانب الإيجابي للصيام. وفي الفرضية الثانية يكون التساؤل بحثاً عن حقيقة الصيام. ويمكن الجواب على هذا التساؤل بما يلي:ـ 1ـ إن حقيقة الصيام ـ كلها ـ هي ما يبدو من ظاهر التشريع، وهي إيقاف الغرائز ـ فترة الصيام ـ، وليس إيقاف الغرائز لفترة محددة، عملاً سلبياً، إذا كان مصلحة الغرائز أنفسها، وفي صالح الجسد ذاته، لأن الإيجابية بالنسبة رأي أي شيء، لا تعني العفوية والاسترسال، وإنما تعني الالتزام وفي التقييم الواقعي المدروس. والتقييم الواقعي المدروس، دل على: أن الاسترسال العفوي مع الغرائز الى منتهى طغيانها واندفاعها؛ يؤدي إلى استنفاذها الباكر، وتبكيت الجسد من ورائها، وأن ترويضها، يساوي احترامها وصيانة الجسد من روائها. وقد أفاد الطب: أن الصيام ـ بظاهره الوارد في نصوص الشريعة ـ يؤدي إلى تربية الجسد، وتخليصه من الرواسب المتطفلة عليه، والزوائد العالة التي تشل نشاطه واستقامته. وقد أفاد الطب أن الصيام بظاهره الوارد في النصوص الشريعة يؤدي الى تنشيط الغرائز، وأنقاذها من الرهق الكابي، فهو عمل أيجابي، رغم ظاهره السلبي لأن واقع كل شيء لا يقاس بظاهره، فَرُبَّ شيءٍ ظاهره سلبي وواقعة إيجابي: فالنوم ـ في ظاهره ـ عمل سلبي، لأنه يعطل الجسد عن ممارساته الحيوية ـ و ـ في واقعة ـ إيجابي، لأنه يهدّئ الأعصاب ويريحها، فيهيئ الجسد لمواصلة ممارساته الحيوية. وتشذيب الشجر ـ في ظاهره ـ عمل سلبي، لأنه تنقيص لحجمه، وبتر لأغصانه، وتحديد لامتداده، و ـ في واقعة ، إيجابي، لأنه تطهير له من عفويته، وإنقاذ له من الفروع المحسوبة عليه، التي تعيق فيه نشاط الأثمار ووفرة الغضارة. والحمد لله رب العالمين.
التعليمات الإدارية
« آخـــر الــمــواضــيــع »
05-05-2021, 01:25 PM
حقيقة الصيام بين السلب والإيجاب
العرض العادي
